Blog

التوجّس

بقلم: دعاء الشريف

تسلّلتُ الدّرَج المظلم على ضوء هاتفي، أقسم إن المصعد كان يرافقني رغم انقطاع الكهرباء!، تجاهلتُ النظر إليه مرارًا وتكرارًا، لم أستطع تجنب خياله الملازم لي، تماسكت، وصلت، تحسست مقبض الباب، تعثّرت كثيرًا حتى تذكّرت المفتاح المناسب، لم أنسَه يومًا، لكن شدة الظلام مع صراع ما مضى، كادت أن تُفقدني عقلي!، بعد بضع دقائق -بين مقاومة خوفي ورغبتي في الانتصار- وجدت المفتاح المناسب.. تزامنًا مع تكّة الباب، سقط هاتفي! فشلت في العثور عليه، لا يهمّ.. في النهاية أصبحتُ بالداخل، أوصدتُ الباب؛ فأطلَقَ ضجيجًا لا يعادل رِفق إغلاقي له! ابتسمت، حدّثتُ نفسي بهدوء: “لعلّها بطشة هواء عابرة”، اتّكأتُ على ذاكرتي للوصول إلى مقابض الإضاءة كافةً، جلست بأحد الأركان المُخيمة بالسواد، أغمضتُ عينَيّ، كلما حاولت فتحهما رأيتُ ضبابًا، أغمضهما مرةً أخرى، ظللت هكذا مدةً لا أدركها، حتى اقترب بيدَيه من رقبتي! شعرت بالاختناق؛ صراع مع روحي، بين رغبتي في البقاء ورغبتها في مغادرة كل عضو من جسدي!.. تجمّدَت أطرافي رغم العرق الذي يتصبّب من جبيني، ظللتُ أقاوم حتى استسلمت لما اجتاحني تدريجيًّا؛ أصبحت لا أقاوِم!، تجلّت الرؤية تدريجيًّا.. فوجدتُني راقدةً على التخت، مقيّدةً، عاجزةً عن النطق، روحي تترنّح في الغرفة، اخترقَت النافذة، تتصاعد إلى السماء؛ ذرفت دموعي، توسّلتُ إليها أن تعود، أريد البقاء، ما زلتُ متمسكةً بالحياة، سقطَت بغتةً، ثقبَت جسدي!، حينها شعرت ببصيص من الضوء يُداهم عينَيّ، نهضت بصعوبة

هكذا أنا منذ انتحار “تيام”، تلاحقني هواجسي من حين لآخر، دلفت إلى المطبخ، أعددت فنجان قهوتي المفضل، عزمت على اقتحام غرفة المكتب، بمجرد دخولي شعرت بالاختناق؛ أسمع أصواتًا وكلمات أشبه بالطلاسم، اقتربتُ من المكتب، جلست على الكرسي، أرخيت جسدي، حاولتُ تذكُّر ما مضى بدقّة، تذكرتُ أول صدمة لـ”تيام” عندما استيقظ على رسالة من مجهول يُدعى دكتور “جاك”، أتذكّر عندما هرول إلى تلك الغرفة واقتحم الباب، أعطاني الهاتف، بدأت أقرأ، وأستمع إلى صوت ذلك الطبيب ونصائحه له، وأنا في غاية الرعب الممزوج بالصدمة!، فجأةً أُزيلَ الستار؛ اكتشفتُ أن زوجي يعاني من هلاوس واضطرابات نفسية، حتى إنه يريد التخلص مني في أقرب وقت، عندما تحين له الفرصة!.. رفعت عينَيّ لتقابل عينَيه بتردّد، شعرت أنني أرى ملامحه لأول مرة، حاولت أن أتكلم، تلعثمت؛ قلبي يخفق من ردّة الفعل، حاولت مرةً أخرى، بصعوبة همستُ: 

  • تيام، من هذا الطبيب الذي يُدعى “جاك”؟.
  • لا أعلم.
  • أنت تتحدث معه منذ عدّة أشهر!
  • أقسم إنني لم أفعلها!
  • يعرف العديد من التفاصيل، شجارنا،خططنا المستقبلية، لا تغيب عنه غائبة! حتى إنه على دراية بأدقّها، يعرف أمر عجزك الجنسي، ومدى تأثيره السلبي علينا!.

شرد تيام للحظات، كأنه يحاول تذكّر شيء، لكن لم يستطع!.. ظللنا هكذا، شدٌّ وجذب… في النهاية توصلت إلى ضرورة التواصل مع الطبيب بشكل خاص، بعيدًا عنه، وافق، لم يكن هناك اختيار آخر حفاظًا على حياتي من لحظة هواجس عابرة!. مرّت أسابيع وأنا أتعامل مع دكتور جاك من أجل النجاة، يتطلع تيام إلى محادثتنا، ننفّذ أوامره، لكنه كان دائمًا مضطربًا، فاقد الطمأنينة، يقول إن صوت جاك الأجش يبثّ الرعب في قلبه، كان يشعر بخطأ ما، لكنه يريد تَخَطّي كل شيء من أجلي. مع الوقت أصبح جاك جزءًا لا يتجزّأ من يومنا، من خلف الشاشة يخطو معنا كل خطوة بالداخل والخارج، يخترق أفكارنا، يدير مشاعرنا عن بُعد!.. تلك الفترة فقدَت تصرفات تيام الاتّزان، حاول الانتحار عدّة مرات، في كل مرة كان يعود للحياة، يبتسم ببراءة! يقول: “كنت أخشى ألا أراكِ مرةً أخرى”.. في أحد الأيام، دخل تيام المنزل، أوصد الباب بعنف، وبدأ يصرخ:

  • جاك وهم!شخص لا وجود له، جاك شبح يطاردنا!.

استمعت إلى كلامه بالكامل وأنا أعدّ السلطة، خرجت من المطبخ، السكين في يدي، أخفض صوته، نظر إلى برَوع، طلب مني أن أبتعد عنه، وأن عليَّ استيعاب أن جاك وهم، يحاول أن يقضي كلٌّ منا على الآخر!، حدّقَت عيناي به، اقتربتُ بنصل السكين من رقبته، قلت:

  • تيام، لن أكون الضحية يومًا، كُفّعن ألاعيبك!.

توجّهت إلى المطبخ مرةً أخرى، صرختُ، تزامنًا مع وصول رسالة صوتية من دكتور جاك وهو يقول:

 – لحظات، وتصبح “ساندرا” في عداد الموتى، انصاعت لأوامري تلك البريئة؛ الساذجة أخذَت الحقنة، خضعت للموت من أجلك، لا تخبر أحدًا، اتركها تذهب في سلام.

هرول تيام إلى المطبخ، نظر إلى جسدي الراقد على الأرض، وبقايا الحقنة المتواجدة بين أصابعي، نظرتُ بلطف، تفوّهت: “تيام، أنصت إليه”. 

أمسك تيام هاتفه، بدأ يرسل إلى جاك، يصرخ تارةً، ويتوسل إليه تارةً أخرى! في المقابل جاك صامت، لم يستجِب على الإطلاق، عاد إليّ، تناثرت دموعه على وجهي، انتشل الحقنه من بين أطرافي، حقنها في ذراعه، بدت على جسده علامات التشنّج، نظرتُ إليه كثعلب ماكر، تحسستُ وجهه الملائكي، تتّبعت روحه وهي تفيض من أنحاء جسده، حتى فارقَت عينَيه، أفرغت صوت جاك من داخلي، كان على أحدنا التضحية، وهي لا تليق إلا بك

جارنا

بقلم د. منى سالم

جارنا قتل زوجته، أنا متأكدة من ذلك!.. شجاراتهم المتكررة في الآونة الأخيرة، وأصواتهم العالية كل ليلة، وتهديداتها المستمرة له بفضح أمره، ثم اختفاؤها المفاجئ! كلها أمور تدل على ذلك. كم من ليلة سمعت نقاشاتهم الحادة تقطع سكون الليل وتبقيني مستيقظةً حتى يصيبهم الإرهاق ويخلدا إلى النوم!. مهلًا.. لا تُسيئوا الظن بي، فأنا لا أتجسس عليهم، فالتجسس حرام كما علّمَتني أمي منذ الصغر، عندما رأتني أسترق السمع يومًا ما، فما كان منها إلا أنها انهالت عليّ بضرب مبرح وكلام قاسٍ عن قلة حيائي وفساد أخلاقي، ولكن حائط غرفتي ملاصق لحائط غرفة نومهم، كما أنه لا يحلو لهم الشجار إلا في منتصف الليل! حيث يخلد الجميع إلى النوم، فيكون صوتهم مدويًا وسط سكون الليل!. تارة سمعتها تتّهمه بعدم الاهتمام بها، وبالتقليل منها أمام ضيوفهم، وتارة أخرى علمت أنها غضبَت لأنه لم يُحضر لها هديةً بعيد ميلادها. ولكن مؤخّرًا، ومنذ قرابة شهرين، سمعتها تتّهمه بالخيانة! وبأنه يرى امرأةً أخرى غيرها. يومها تصاعد الأمر حتى إنني رأيتها من نافذة غرفتي تهرع إلى الخارج في منتصف الليل، وهو وراءها يحاول استجداءها للعودة، حتى عادت معه إلى الداخل وهو وراءها، رامقًا نافذة غرفتي!. المسكين، لا بدّ أنه قد أحسّ بوجودي، مع أنني حاولت قدر المستطاع التخفّي في ظلام الغرفة؛ حتى لا أثير حفيظته، ولكن لا بدّ أنه رآني فشعر بالحرج من وجودي ومشاهدتي لتلك المناوشات الليلية.

وبعد هذا اليوم، لم أعُد أراهما معًا أبدًا، كلٌّ منهم يخرج في الصباح في طريقه دون أن يلقي حتى تحيةً على الآخر، لا بدّ أن الأمور قد وصلت إلى الحافة، لدرجة أنني سمعتها منذ عدّة أيام تستعيد نشاطها الليلي، وتقول له إنها قد علمت مَن تلك المرأة التي يقابلها!، ثم اختفت بعدها إلى الأبد. لا بدّ أنه قد اتفق مع عشيقته على التخلص منها، حتى يتسنّى لهم العيش معًا دون منغّصات، فلقد كانت زوجةً كئيبةً لا تُطاق.

استيقظتُ منذ يومين على أصوات عالية، وفوجئت بوجود الشرطة بمنزل جارنا العزيز، فلقد أبلغ أهل زوجته عن اختفائها، كما أنهم أخبروا الشرطة عن تلك الخلافات التي كانت تدور بينهم. بحثَت الشرطة في كل مكان ولم يجدوا شيئًا. ثم عادوا مرةً أخرى هذا الصباح بقوة أكبر تطوّق المنزل، يبحثون في الحديقة، حتى وجدوا الجثة مدفونةً على بعد أمتار عميقة بالحديقة الخلفية، لا تمكّن الكلاب البوليسية من الوصول إليها بحاسة شمّهم القوية، اقتادوا الزوج القاتل إلى المخفر بتهمة قتل زوجته الكئيبة. لقد حاولتُ مرارًا إقناعه بإبقاء علاقتنا سرًّا والحذر في تعامله، لكن الأحمق لم يكن حَذِرًا بدرجة كافية، حتى تمكّنَت زوجته من كشف أمرنا وتهديدي بفضح أمري لدى عائلتي، فما كان مني إلا أن ألمحت له بفكرة التخلص منها؛ فقد أصبحت تثير غضبي بتهديداتها المتتالية!. كنت أظن وقتها أننا سننعم بحياة هادئة، لكنه صار حزينًا وكئيبًا بعد فقدها، وحتى إنه اتّهمني بإفساد حياته وتحوّله إلى مجرم قاتل!. حاولت تحمّله، فهو على أية حال يمرّ بوقت عصيب، ولكنه أصرّ على إنهاء علاقتنا دون وداع! وسمعت أنه يعدّ نفسه للسفر، فما كان إلا أن أرسلتُ رسالةً من مجهول للشرطة، للإبلاغ عن وجود زوجته بالحديقة حتى لا يسافر ويتركني وحيدة

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *